أن تكون حراً، يعني أن تقف على مسافة من الأحداث وتنظر إليها.
الضمير محرك جيد للالتزام، وبه تضبط قياس الأخلاق، ما لك وما عليك، تحت فحص نبض متوتر، في صعود وهبوط شديدين تجاه ما يحصل.
في السنوات الصعبة التي مرّ بها العراق (وهل هناك أخرى غير صعبة؟) تجنبت الولاءات، وكان الجميع منغمر فيها حتى الجنون. ومنذ عام 1958 شاهدت كثيراً من العنف، لم يجرني إلى فخاخه، ولا الأمل بالخلاص في المضاد منه، فبقيت على الهامش، أنظر بحياد إلى الامتيازات تأتي وتروح، متسلحاً بالصبر العنيد.
أصحو في الرابعة صباحاً، أعد القهوة وبعد رشفتين ثلاث أدخن، ثم تطوف في ذهني أحداث العالم، شريط طويل من الإثارات، يجذبك كل منها إلى دائرة الضوء التي تريد التحليق حوله: حروب، توترات، خلافات، مطامع، قمع، انتهاكات، إهدار حقوق، تحايل، أكاذيب، جوع، تشرد... حيثما تلتفت ستجد موضوعاً تكتب عنه، بكلمات قليلة، ومعاني كثيفة، تصلك إلى الموقف الذي تريد التعبير عنه.
وعندما أذهب إلى الأدب، وبيدي موضوعي، أكون في أفضل حال، فأصوغ شخصياتي، وأرسم لها النهايات، في خط بياني دقيق، يتصاعد حتى النقطة الأخيرة من النزاع، كما تفعل ربات القدر الاثينيات.
القرن العشرون شهد انهيار الفاشية، النازية، البلفشية، الخمير الحمر، ثم حزب البعث في بداية القرن الواحد والعشرين، كلها تقوم على تقديس العقيدة وتأليه الحاكم. البعث في سوريا مآله الانهيار هو الآخر لأنه يضع مصلحة العائلة وثراءها فوق الجميع، ويحيطها بالأحقاد إلى أن يختنق بها.
أما الدين فسيظل ينازع على مدار القرن، وتبقى الكنائس والمآذن في نهايته شواهد على فترة مظلمة استنارت بزيت تخلف العقل!
شجبت تقاليد أهلي، ثم تمردت عليهم وعشت وحدي في سن مبكرة، بعد فترة طويلة قال أحد الشباب أريد العيش مثلك، في الوحدة، أجبت أن الوحدة لا تطاق، يصعب على إنسان يريدها لذاتها ويحتمل قسوتها، إنها وسيلة لخوض معارك الضمير! انصرف الشاب، وكان متزوجاً، وله طفلان، وشعر أن الوحدة نوع مختار من العذاب.
يقال أن اليقين لا يوجد إلا في العلم، أما القناعات فترجحها الشكوك إلى أن يطيح بها تغيّر الحال، والزمن كفيل بإحالة التراب على ما يبدو عصياً منها. السنين بكتريا تقضم ثم تطمس الصروح العاليةّ، وتأثيرها الكاذب على النفس!
الأيديولوجية تكره الحرية، الأيديولوجية الحزبية والدينية، تمقت ما يمت للحرية بصلة، وتعوضان عنها بسرقة شعاراتها الصميمة، مثل الديمقراطية، وحرية التعبير، وحق الإنسان في الحياة، تلصقها بنفسها، وتتسمى بها، لكن عندما تواجه بمناقشة الفرد من داخلها، تخوّنه، تطارده، وتمحوه من الوجود، وتدعي أنه تجاوز الحد المسموح به، والحد المسموح به لا يعدو أن يكون غلاف حديدي تحصّن به معتقداتها الصارمة من الانتقاد، لأن في الانتقاد بداية التفكك!
في الحياة لا يوجد ربح وخسارة حقيقيين، نصارع ونشرب ونأكل ونجوع ثم تنطفئ ومضة النور التي فتحنا عينينا عليها، بلا أثر، ولا أمل مخادع، ويشكر من يأتي بعدنا الصدفة العظيمة التي أعطيت له، ولم نعرف كيف ننعم بها على الوجه الأكمل!